الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} قوله تعالى}وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} }أن} في موضع نصب والمعنى من أن جاءهم. قيل: هو متصل بقوله}في عزة وشقاق} أي في عزة وشقاق وعجبوا، وقوله}كم أهلكنا} معترض. وقيل: لا بل هذا ابتداء كلام؛ أي ومن جهلهم أنهم أظهروا التعجب من أن جاءهم منذر منهم. }وقال الكافرون هذا ساحر} أي يجيء بالكلام المموه الذي يخدع به الناس؛ وقيل: يفرق بسحره بين الوالد وولده والرجل وزوجته }كذاب} أي في دعوى النبوة. قوله تعالى}أجعل الآلهة إلها واحدا} مفعولان أي صير الآلهة إلها واحدا. }إن هذا لشيء عجاب} أي عجيب. وقرأ السلمي}عجاب} بالتشديد. والعجاب والعجّاب والعجب سواء. وقد فرق الخليل بين عجيب وعجاب فقال: العجيب العجب، والعجاب الذي قد تجاوز حد العجب، والطويل الذي فيه طول، والطوال، الذي قد تجاوز حد الطول. وقال الجوهري: العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة. وقال مقاتل}عجاب} لغة أزد شنوءة. {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق، أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب، أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب، أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب، جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} قوله تعالى}وانطلق الملأ منهم أن امشوا} }الملأ} الأشراف، والانطلاق الذهاب بسرعة؛ أي انطلق هؤلاء الكافرون من عند الرسول عليه السلام يقول بعضهم لبعض}أن امشوا} أي امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه. }واصبروا على آلهتكم} وقيل: هو إشارة إلى مشيهم إلى أبي طالب في مرضه كما سبق. قوله تعالى}ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة} قال ابن عباس والقرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي: يعنون ملة عيسى النصرانية وهي آخر الملل. والنصارى يجعلون مع الله إلها. وقال مجاهد وقتادة أيضا: يعنون ملة قريش. وقال الحسن: ما سمعنا أن هذا يكون في آخر الزمان. وقيل: أي ما سمعنا من أهل الكتاب أن محمدا رسول حق. }إن هذا إلا اختلاق} أي كذب وتخرص؛ عن ابن عباس وغيره. يقال: خلق واختلق أي ابتدع. وخلق الله عز وجل الخلق من هذا؛ أي ابتدعهم على غير مثال. قوله تعالى}أؤنزل عليه الذكر من بيننا} هو استفهام إنكار، والذكر ها هنا القرآن. أنكروا اختصاصه بالوحي من بينهم. }بل هم في شك من ذكري} أي من وحيي وهو القرآن. أي قد علموا أنك لم تزل صدوقا فيما بينهم، وإنما شكوا فيما أنزلته عليك هل هو من عندي أم لا. }بل لما يذوقوا عذاب} أي إنما اغتروا بطول الإمهال، ولو ذاقوا عذابي على الشرك لزال عنهم الشك، ولما قالوا ذلك؛ ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ. و}لما} بمعنى لم وما زائدة كقوله قوله تعالى}أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب} قيل: أم لهم هذا فيمنعوا محمدا عليه السلام مما أنعم الله عز وجل به عليه من النبوة. و}أم} قد ترد بمعنى التقريع إذا كان الكلام متصلا بكلام قبله؛ كقوله تعالى قوله تعالى}فليرتقوا في الأسباب} أي فليصعدوا إلى السموات، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد. يقال: رقي يرقى وارتقى إذا صعد. ورقى يرقي رقيا مثل رمى يرمي رميا من الرقية. قال الربيع بن أنس: الأسباب أرق من الشعر وأشد من الحديد ولكن لا ترى. والسبب في اللغة كل ما يوصل به إلى المطلوب من حبل أو غيره. وقيل: الأسباب أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها؛ قاله مجاهد وقتادة. قال زهير: وقيل: الأسباب السموات نفسها؛ أي فليصعدوا سماء سماء. وقال السدي}في الأسباب} في الفضل والدين. وقيل: أي فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة. وهو معنى قول أبي عبيدة. وقيل: الأسباب الحبال؛ يعني إن وجدوا حبلا أو سببا يصعدون فيه إلى السماء فليرتقوا؛ وهذا أمر توبيخ وتعجيز. ثم وعد نبيه صلى النصر عليهم فقال}جند ما هنالك} }ما} صلة وتقديره هم جند، فـ }جند} خبر ابتداء محذوف. }مهزوم} أي مقموع ذليل قد انقطعت حجتهم؛ لأنهم لا يصلون إلى أن يقولوا هذا لنا. ويقال: تهزمت القربة إذا انكسرت، وهزمت الجيش كسرته. والكلام مرتبط بما قبل؛ أي}بل الذين كفروا في عزة وشقاق} وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تغمك عزتهم وشقاقهم، فإني أهزم جمعهم وأسلب عزهم. وهذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد فعل بهم هذا في يوم بدر. قال قتادة: وعد الله أنه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأويلها يوم بدر. و}هنالك} إشارة لبدر وهو موضع تحزبهم لقتال محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد بالأحزاب الذين أتوا المدينة وتحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد مضى ذلك في }الأحزاب}. والأحزاب الجند، كما يقال: جند من قبائل شتى. وقيل: أراد بالأحزاب القرون الماضية من الكفار. أي هؤلاء جند على طريقة أولئك كقوله تعالى {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب، إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} قوله تعالى}كذبت قبلهم قوم نوح} ذكرها تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له؛ أي هؤلاء من قومك يا محمد جند من الأحزاب المتقدمين الذين تحزبوا على أنبيائهم، وقد كانوا أقوى من هؤلاء فأهلكوا. وذكر الله تعالى القوم بلفظ التأنيث، واختلف أهل العربية في ذلك على قولين: أحدهما: أنه قد يجوز فيه التذكير والتأنيث. الثاني: أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه، إلا أن يقع المعنى على العشيرة والقبيلة، فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيها عليه؛ كقوله تعالى وواحد الأوتاد وتد بالكسر، وبالفتح لغة. وقال الأصمعي: يقال وتد واتد كما يقال: شغل شاغل. وأنشد: قال: شبه الرجل بالجذل. }وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة} أي الغيضة. وقد مضى ذكرها في }الشعراء]. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر}ليكة} بفتح اللام والتاء من غير همز. وهمز الباقون وكسروا التاء. وقد تقدم هذا. }أولئك الأحزاب} أي هم الموصوفون بالقوة والكسرة؛ كقولك فلان هو الرجل. }إن كل} بمعنى ما كل. }إلا كذب الرسل فحق عقاب} أي فنزل بهم العذاب لذلك التكذيب. وأثبت يعقوب الياء في }عذابي} و}عقابي} في الحالين وحذفها الباقون في الحالين. ونظير هذه الآية قوله عز وجل {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} قوله تعالى}وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة} }ينظر} بمعنى ينتظر؛ ومنه قوله تعالى والجمع فيق ثم أفواق مثل شبر وأشبار ثم أفاويق. قال ابن همام السلولي: والأفاويق أيضا ما اجتمع في السحاب من ماء، فهو يمطر ساعة بعد ساعة. وأفاقت الناقة إفاقة أي اجتمعت الفيقة في ضرعها؛ فهي مفيق ومفيقة - عن أبي عمرو - والجمع مفاويق. وقال الفراء وأبو عبيدة وغيرهما}من فواق} بفتح الفاء أي راحة لا يفيقون فيها، كما يفيق المريض والمغشي عليه. و}من فواق} بضم الفاء من انتظار. وقد تقدم أنهما بمعنى وهو ما بين الحلبتين. قلت: والمعنى المراد أنها ممتدة لا تقطيع فيها. قوله تعالى}وقالوا ربنا عجل لنا قطنا} قال مجاهد: عذابنا. وكذا قال قتادة: نصيبنا من العذاب. الحسن: نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا. وقال سعيد بن جبير. ومعروف في اللغة أن يقال للنصيب قط وللكتاب المكتوب بالجائزة قط. قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب. ومنه قيل للصك قط. وقال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز والجمع القطوط؛ قال الأعشى: يعني كتب الجوائز. ويروى: بأمته بدل بغبطته، أي بنعمته وحال الجليلة، ويأفق يصلح. ويقال: في جمع قط أيضا قططة وفي القليل أقط وأقطاط. ذكره النحاس. وقال السدي: سألوا أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به. وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا. وقيل: معناه عجل لنا ما يكفينا؛ من قولهم: قطني؛ أي يكفيني. وقيل: إنهم قالوا ذلك استعجالا لكتهم التي يعطونها بأيمانهم وشمائلهم حين تلى عليهم بذلك القرآن. وهو قوله تعالى {قبل يوم الحساب} أي قبل يوم القيامة في الدنيا إن كان الأمر كما يقول محمد. وكل هذا استهزاء منهم. {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} قوله تعالى}اصبر على ما يقولون} أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر لما استهزؤوا به. وهذه منسوخة بآية السيف. }واذكر عبدنا داود} لما ذكر من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على أذاهم، وسلاه بكل ما تقدم ذكره. ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء؛ ليتسلى بصبر من صبر منهم؛ وليعلم أن له في الآخرة أضعاف ما أعطيه داود وغيره من الأنبياء. وقيل: المعنى اصبر على قولهم، واذكر لهم أقاصيص الأنبياء؛ لتكون برهانا على صحة نبوتك. وقول}عبدنا} إظهارا لشرفه بهذه الإضافة }ذا الأيد} ذا القوة في العبادة. وكان يصوم يوما ويفطر يوما وذلك أشد الصوم وأفضله؛ وكان يصلي نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدو، وكان قويا في الدعاء إلى الله تعالى. ويقال: الأيد والآد كما تقول العيب والعاب. قال: ومنه رجل أيد أي قوي. وتأيد الشيء تقوى، قال الشاعر: يقول: إذا الله وتر القوس التي في السحاب رمى كلى الإبل وأسمنها بالشحم. يعني من النبات الذي يكون من المطر. }إنه أواب} قال الضحاك: أي تواب. وعن غيره: أنه كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر منه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فكان داود رجاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به. {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق} قوله تعالى}إنا سخرنا الجبال معه يسبحن} }يسبحن} في موضع نصب على الحال. ذكر تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله جل وعز ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال. وقال ابن عباس}يسبحن} يصلين. وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه. وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، وما تصغي لحسنه الطير وتصوت معه، فهذا تسبيح الجبال والطير. وقيل: سخرها الله عز وجل لتسير معه فذلك تسبيحها؛ لأنها دالة على تنزيه الله عن شبه المخلوقين. وقد مضى القول في هذا في }سبأ} وفي }سبحان} عند قوله تعالى صلاة الضحى نافلة مستحبة، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشي، لا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة؛ ويرتفع كدرها؛ وتشرق بنورها؛ كما لا تصلى العصر إذا اصفرت الشمس. {والطير محشورة كل له أواب، وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} قوله تعالى}والطير محشورة} معطوف على الجبال. قال الفراء: ولو قرئ }والطير محشورة} لجاز؛ لأنه لم يظهر الفعل. قال ابن عباس: كان داود عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه. فاجتماعها إليه حشرها. فالمعنى وسخرنا الطير مجموعة إليه لتسبح الله معه. وقيل: أي وسخرنا الريح لتحشر الطيور إليه لتسبح معه. أو أمرنا الملائكة تحشر الطيور. }كل له} أي لداود }أواب} أي مطيع؛ أي تأتيه وتسبح معه. وقيل: الهاء لله عز وجل. قوله تعالى}وشددنا ملكه} أي قويناه حتى ثبت. قيل: بالهيبة وإلقاء الرعب منه في القلوب. وقيل: بكثرة الجنود. وقيل: بالتأييد والنصر. وهذا اختيار ابن العربي. فلا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير معان. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا. كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله. والملك عبارة عن كثرة الملك، فقد يكون للرجل ملك ولكن لا يكون ملكا حتى يكثر ذلك؛ فلو ملك الرجل دارا وامرأة لم يكن ملكا حتى يكون له خادم يكفيه مؤنة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورته الآدمية. وقد مضى هذا المعنى في }براءة} وحقيقة الملك في }النمل}مستوفى. قوله تعالى}وآتيناه الحكمة} أي النبوة؛ قال السدي. مجاهد: العدل. أبو العالية: العلم بكتاب الله تعالى. قتادة: السنة. شريح: العلم والفقه. }وفصل الخطاب} قال أبو عبدالرحمن السلمي وقتادة: يعني الفصل في القضاء. وهو قول ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس: بيان الكلام. علي بن أبي طالب: هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضا. وقال أبو موسى الأشعري والشعبي أيضا: هو قوله أما بعد، وهو أول من تكلم بها. وقيل}فصل الخطاب} البيان الفاصل بين الحق والباطل. وقيل: هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وقول علي رضي الله عنه يجمعه؛ لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى. قال القاضي أبو بكر بن العربي: فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد، وفصل منه مؤكد، غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام؛ ففي الحديث: وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل فقال: إن ابن أبي ليلى - وكان قاضيا بالكوفة - جلد امرأة مجنونة قالت لرجل يا ابن الزانيين حدين في المسجد وهي قائمة. فقال: أخطأ من ستة أوجه. قال ابن العربي: وهذا الذي قال أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالرؤية إلا العلماء. فأما قضية علي فلا يدركها الشادي، ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادى. وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة المقتولين خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها، فلهم الديات على من حضر على وجه الخطأ، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة قاتل ثلاثة بالمجاذبة، فله الدية بما قتل، وعليه ثلاثة أرباع الدية بالثلاثة الذين قتلهم. وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان بالإثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة. وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف؛ لأنه قتل واحدا بالمجاذبة فوقعت المحاصة وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه. وهذا من بديع الاستنباط. وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرأها ستة: الأول أن المجنون لا حد عليه؛ لأن الجنون يسقط التكليف. وهذا إذا كان القذف في حالة الجنون، وأما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى فإنه يحد بالقذف في حالة إفاقته. والثاني قولها يا ابن الزانيين فجلدها حدين لكل أب حد، فإنما خطأه أبو حنيفة على مذهبه في أن حد القذف يتداخل، لأنه عنده حق لله تعالى كحد الخمر والزنى، وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان أن الحد بالقذف حق للآدمي، فيتعدد بتعدد المقذوف. الثالث أنه جلد بغير مطالبة المقذوف، ولا تجوز إقامة حد القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله تعالى، ومن يقول إنه حق الآدمي. وبهذا المعنى وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حق للآدمي؛ إذ لو كان حقا لله لما توقف على المطالبة كحد الزنى. الرابع أنه والى بين الحدين، ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما، بل يحد لأحدهما ثم يترك حتى يندمل الضرب، أو يستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر. الخامس أنه حدها قائمة، ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة، قال بعض الناس: في زنبيل. السادس أنه أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود فيه إجماعا. وفي القضاء في المسجد والتعزير فيه خلاف. قال القاضي: فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء، الذي وقعت الإشارة إليه على أحد التأويلات في الحديث المروي {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب، إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب، فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} قوله تعالى}وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} }الخصم} يقع على الواحد والاثنين والجماعة؛ لأن أصله المصدر. قال الشاعر: النحاس: ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به ها هنا ملكان. وقيل}تسوروا} وإن كان اثنين حملا على الخصم، إذ كان بلفظ الجمع ومضارعا له، مثل الركب والصحب. تقديره للاثنين ذوا خصم وللجماعة ذوو خصم. ومعنى}تسوروا المحراب} أتوه من أعلى سوره. يقال: تسور الحائط تسلقه، والسور حائط المدينة وهو بغير همز، وكذلك السور جمع سورة مئل بسرة وبسر وهي كل منزلة من البناء. ومنه سورة القرآن؛ لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى. وقد مضى في مقدمة الكتاب بيان هذا. وقول النابغة: يريد شرفا ومنزلة. فأما السؤر بالهمز فهو بقية الطعام في الإناء. ابن العربي: والسؤر الوليمة بالفارسي. قلت: قال علماؤنا: وفي هذا دليل على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولا بالعبادة. وقد مضى هذا المعنى في }النساء}. وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره رضي الله عنهما. قوله تعالى}ففزع منهم} لأنهما أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم. وقيل: لدخولهم عليه بغير إذنه. وقيل: لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. قال ابن العربي: وكان محراب داود عليه السلام من الامتناع بالارتفاع، بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة إلا أن يقيم إليه أياما أو أشهرا بحسب طاقته، مع أعوان يكثر عددهم، وآلات جمة مختلفة الأنواع. ولو قلنا: إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرا عن ذلك}تسوروا المحراب} إذ لا يقال تسور المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازا؛ وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعا أنهما ملكان؛ لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا علوي. قال الثعلبي: وقد قيل: كان المتسوران أخوين من بني إسرائيل لأب وأم. فلما قضى داود بينهما بقضية قال له ملك من الملائكة: فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود. قال الثعلبي: والأول أحسن أنهما كانا ملكين نبها داود على ما فعل. قلت: وعلى هذا أكثر أهل التأويل. فإن قيل: كيف يجوز أن يقول الملكان }خصمان بغى بعضنا على بعض} وذلك كذب والملائكة عن مثله منزهون. فالجواب عنه أنه لا بد في الكلام من تقدير؛ فكأنهما قالا: قدرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، وعلى ذلك يحمل قولهما}إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة} لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل؛ والله أعلم. إن قيل: لم فزع داود وهو نبي، وقد قويت نفسه بالنبوة، واطمأنت بالوحي، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة، وأظهر على يديه من الآيات، وكان من الشجاعة في غاية المكانة؟ قيل له: ذلك سبيل الأنبياء قبله، لم يأمنوا القتل والأذية ومنهما كان يخاف. ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا قال ابن العربي: فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما، وهلا أدبهما وقد دخلا عليه بغير إذن؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه: الأول: أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن، فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملا في هذه الأحكام، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان. الثاني: أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب، لاحتمل أن يكون الفزع الطارئ عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له. الثالث: أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة، ومثل ضربه الله في القصة، وأدب وقع على دعوى العصمة. الرابع: أنه يحتمل أن يكون في مسجد ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد. قلت: وقول خامس ذكره القشيري؛ وهو أنهما قالا: لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب، توصلنا إلى الدخول بالتسور، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا. فقبل داود عذرهم، وأصغى إلى قولهم. قوله تعالى}خصمان} إن قيل: كيف قال}خصمان} وقبل هذا}إذ تسوروا المحراب} فقيل: لأن الاثنين جمع؛ قال الخليل: كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين. وقال الكسائي: جمع لما كان خبرا، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة، خبر الإثنان عن أنفسهما فقالا خصمان. وقال الزجاج: المعنى نحن خصمان. وقال غيره: القول محذوف؛ أي يقول}خصمان بغى بعضنا على بعض} قال الكسائي: ولو كان بغى بعضهما على بعض، لجاز. الماوردي: وكانا ملكين، ولم يكونا خصمين ولا باغيين، ولا يتأتى منهما كذب؛ وتقدير كلامهما ما تقول: إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. وقيل: أي نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض. وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع. ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة مع كل واحد من الفريق الآخر، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان، فعرف داود بذكر النكاح القصة. وأغنى ذلك عن التعرض للخصومات الأخر. والبغي التعدي والخروج عن الواجب. يقال: بغى الجرح إذا أفرط وجعه وترامى، إلى ما يفحش، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة. قوله تعالى}فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط} أي لا تجُر؛ قال السدي. وحكى أبو عبيد: شططت عليه وأشططت أي جرت. قوله تعالى}إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة} أي قال الملك الذي تكلم عن أوريا }إن هذا أخي} أي على ديني، وأشار إلى المدعى عليه. وقيل: أخي أي صاحبي. }له تسع وتسعون نعجة} وقرأ الحسن}تسع وتسعون نعجة} بفتح التاء فيهما وهي لغة شاذة، وهي الصحيحة من قراءة الحسن؛ قال النحاس. والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة؛ لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب. وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة، لأن الكل مركوب. قال ابن عون: ونعجتي خمسا توفيهنه ألا فتى سمح يغذيهنه
طي النقا في الجوع يطويهنه ويل الرغيف ويله منهنه وقال عنترة: فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي فتجسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرة والشاة ممكنة لمن هو مرتم
فكأنما التفتت بجيد جداية رشأ من الغزلان حر أرثم وقال آخر: وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء. قال الحسين بن الفضل: هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم ضرب زيد عمرا، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق، كأنه قال: نحن خصمان هذه حالنا. قال أبو جعفر النحاس: وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى: يقول: خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة؛ كما تقول: رجل يقول لامرأته كذا، ما يجب عليه؟ قلت: وقد تأول المزني صاحب الشافعي هذه الآية، قال النحاس: وفي قراءة ابن مسعود }إن هذا أخي كان له تسع وتسعون نعجة أنثى} و}كان} هنا مثل قول عز وجل قوله تعالى}ولي نعجة واحدة} أي امرأة واحدة}فقال أكفلنيها} أي أنزل لي عنها حتى أكفلها. وقال ابن عباس: أعطنيها. وعنه: تحول لي عنها. وقال ابن مسعود. وقال أبو العالية: ضمها إلي حتى أكفلها. وقال ابن كيسان: اجعلها كفلي ونصيبي. }وعزني في الخطاب} أي غلبني. قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني. يقال: عزه يعزه بضم العين في المستقبل عزا غلبه. وفي المثل: من عزيز؛ أي من غلب سلب. والاسم العزة وهي القوة والغلبة. قال الشاعر: وقرأ عبدالله بن مسعود وعبيد بن عمير}وعازني في الخطاب} أي غالبني؛ من المعازة وهي المغالبة؛ عازه أي غالبه. قال ابن العربي: واختلف في سبب الغلبة؛ فقيل: معناه غلبني ببيانه. وقيل: غلبني بسلطانه؛ لأنه لما سأله لم يستطع خلافه. كان ببلادنا أمير يقال له: سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة، فقال لي: أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها. فقلت: أما إذا كان عدلا فلا. فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته، كما عجب من جوابي له واستغربه. قوله تعالى}قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام؛ لأنه قال: لقد ظلمك من غير تثبت ببينة، ولا إقرار من الخصم؛ هل كان هذا كذا أولم يكن. فهذا قول. وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا، وهو حسن إن شاء الله تعالى. وقال أبو جعفر النحاس: فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم؛ منهم عبدالله بن مسعود وابن عباس، فإنهم قالوا: ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك. قال أبو جعفر: فعاتبه الله عز وجل على ذلك ونبهه عليه، وليس هذا بكبير من المعاصي، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم، ويلحقه فيه إثم عظيم. كذا قال: في كتاب إعراب القرآن. وقال: في كتاب معاني القرآن له بمثله. قال رضي الله عنه: قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها. وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبدالله بن مسعود قال: ما زاد داود عليه السلام على أن قال}أكفلنيها} أي انزل لي عنها. وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال: ما زاد داود صلى الله عليه وسلم على أن قال}أكفلنيها} أي تحول لي عنها وضمها إلي. قال أبو جعفر: فهذا أجل ما روي في هذا، والمعنى عليه أن داود عليه السلام سأل أوريا أن يطلق امرأته، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته، فنبهه الله عز وجل على ذلك، وعاتبه لما كان نبيا وكان له تسع وتسعون أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه. قال ابن العربي: وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعا؛ فإن داود صلى الله عليه وسلم لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه: انزل لي عن أهلك وعزم عليه في ذلك، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة؛ كانت في الأهل أو في المال. وقد قال سعيد بن الربيع لعبدالرحمن بن عوف حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما: إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما؛ فقال له: بارك الله لك في أهلك. وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه، وليس في القرآن أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، ولا ولادتها لسليمان، فعمن يروى هذا ويسند؟! وعلى من في نقله يعتمد، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد. أما أن في سورة }الأحزاب} نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة، وذلك قوله وذكر الكيا الطبري في أحكامه في قول الله عز وجل}وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} الآية: ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر، أن داود عليه السلام كان قد أقدم على خطبة امرأة قد خطبها غيره، يقال: هو أوريا؛ فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه، وزاهدين في الخاطب الأول، ولم يكن بذلك داود عارفا، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك فيعدل عن هذه الرغبة، وعن الخطبة بها فلم يفعل ذلك، من حيث أعجب بها إما وصفا أومشاهدة على غير تعمد؛ وقد كان لداود عليه السلام من النساء العدد الكثير، وذلك الخاطب لا امرأة له، فنبه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسور الملكين، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض؛ لكى يفهم من ذلك موقع العتب فيعدل عن هذه الطريقة، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة. قوله تعالى}قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين، وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر هذا القول. قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر. وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين أدعى والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى. وقد قلت: ذكر هذين الوجهين القشيري والماوردي وغيرهما. قال القشيري: وقوله}لقد ظلمك بسؤال نعجتك} من غير أن يسمع كلام الخصم مشكل؛ فيمكن أن يقال: إنما قال هذا بعد مراجعة الخصم الآخر وبعد اعترافه. وقد روي هذا وإن لم تثبت روايته، فهذا معلوم من قرائن الحال، أو أراد لقد ظلمك إن كان الأمر على ما تقول، فسكته بهذا وصبره إلى أن يسأل خصمه. قال ويحتمل أن يقال: كان من شرعهم التعويل على قول المدعي عند سكوت المدعى عليه، إذا لم يظهر منه إنكار بالقول. وقال الحليمي أبو عبدالله في كتاب منهاج الدين له: ومما جاء في شكر النعمة المنتظرة إذا حضرت، أوكانت خافية فظهرت: السجود لله عز وجل. قال والأصل في ذلك قول عز وجل}وهل أتاك نبأ الخصم} إلى قوله}وحسن مآب}. أخبر الله عز وجل عن داود عليه السلام: أنه سمع قول المتظلم من الخصمين، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر، إنما حكى أنه ظلمه، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم؛ فقال له مستعجلا}لقد ظلمك} مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول: كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا، فسرق مني هذه النعجة، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها، وما قلت له أكفلنيها، وعلم أني مرافعه إليك، فجرني قبل أن أجره، وجاءك متظلما من قبل أن أحضره، لتظن أنه هو المحق وأني أنا الظالم. ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه، علم أن الله عز وجل خلاه ونفسه في ذلك الوقت، وهو الفتنة التي ذكرناها، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه، فاستغفر ربه وخر راكعا لله تعالى شكرا على أن عصمه، بأن اقتصر على تظليم المشكو، ولم يزده على ذلك شيئا من انتهار أو ضرب أو غيرهما، مما يليق بمن تصور في القلب أنه ظالم، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه؛ فقال قوله تعالى}وإن كثيرا من الخلطاء} يقال: خليط وخلطاء، ولا يقال طويل وطولاء؛ لثقل الحركة في الواو. وفيه وجهان: أحدهما أنهما الأصحاب. الثاني أنهما الشركاء. قلت: إطلاق الخلطاء على الشركاء. فيه بعد، وقد اختلف العلماء في صفة الخلطاء فقال أكثر العلماء: هو أن يأتي كل واحد بغنمه فيجمعهما راع واحد والدلو والمراح. وقال طاوس وعطاء: لا يكون الخلطاء إلا الشركاء. وهذا خلاف الخبر؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى}ليبغي بعضهم على بعض} أي يتعدى ويظلم. }إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنهم لا يظلمون أحدا. }وقليل ما هم} يعني الصالحين، أي وقليل هم فـ }ما} زائدة. وقيل: بمعنى الذين وتقديره وقليل الذين هم. وسمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل. فقال له عمر: ما هذا الدعاء. فقال أردت قول الله عز وجل}إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر! قوله تعالى}وظن داود أنما فتناه} أي ابتليناه. }وظن} معناه أيقن. قال أبو عمرو والفراء: ظن بمعنى أيقن، إلا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاين أن يكون الظن إلا بمعنى اليقين. والقراءة }فتناه} بتشديد النون دون التاء. وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه }فتناه} بتشديد التاء والنون على المبالغة. وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميقع }فتناه} بتخفيفهما. ورواه علي بن نصر عن أبي عمرو، والمراد به الملكان اللذان دخلا على داود عليه السلام. قيل: لما قضى داود بينهما في المسجد، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن داود؛ فأحبا أن يعرفهما، فصعدا إلى السماء حيال وجهه، فعلم داود عليه السلام أن الله تعالى ابتلاه بذلك، ونبهه على ما ابتلاه. قلت: وليس في القران ما يدل على، القضاء في المسجد إلا هذه الآية، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرهم داود على ذلك. ويقول: انصرفا إلى موضع القضاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء يقضون في المسجد، وقد قال مالك: القضاء في المسجد من الأمر القديم. يعني في أكثر الأمور. ولا بأس أن يجلس في رحبته؛ ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض، ولا يقيم فيه الحدود؛ ولا بأس بخفيف الأدب. وقد قال أشهب: يقضي في منزله وأين أحب. قال مالك رحمه الله: وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم، وأول من استقضى معاوية. قال مالك: وينبغي للقضاة مشاورة العلماء. وقال عمر بن عبدالعزيز: لا يستقضي حتى يكون عالما بآثار من مضى، مستشيرا لذوي الرأي، حليما نزها. قال: ويكون ورعا. قال مالك: وينبغي أن يكون متيقظا كثير التحذر من الحيل، وأن يكون عالما بالشروط، عارفا بما لا بد له منه من العربية؛ فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له. وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب: أبقيت لك حجة؟ فإن قال لا حكم عليه، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أوبينة. وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع. قوله تعالى}فاستغفر ربه} اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة: الأول: أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها. قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنته النظرة. قال أبو إسحاق: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها، فصارت الأولى له والثانية عليه. الثاني: أنه أغزى زوجها في حملة التابوت. الثالث: أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع: أن أوريا كان خطب تلك المرأة، فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا. فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها. وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة. الخامس: أنه لم يجزع على قتل أوريا، كما كان يجزع على من هلك من الجند، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله تعالى على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله. السادس: أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر. قال القاضي ابن العربي: أما قول من قال: إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء، وكذلك تعريض زوجها للقتل. وأما من قال: إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال؛ لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب! وحكى السدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين ومائة؛ لأن حد قاذف الناس ثمانون وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة. ذكره الماوردي والثعلبي أيضا. قال الثعلبي: وقال الحارث الأعور عن علي: من حدث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقدا جلدته حدين؛ لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين، وحجة للمجتهدين. قال ابن العربي: وهذا مما لم يصح عن علي. فإن قيل: فما حكمه عندكم؟ قلنا: أما من قال إن نبيا زنى فإنه يقتل، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة، فقد اختلف نقل الناس في ذلك؛ فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته، فإنه يناقض التعزير المأمور به، فأما قولهم: إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة؛ لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها. وأما قولهم: إنه. نوى إن مات زوجها تزوجها فلا شيء فيه إذ لم يعرضه للموت. وأما قولهم: إنه خطب على خطبة أوريا فباطل يرده القرآن والآثار التفسيرية كلها. وقد روى أشهب عن مالك قال: بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريبا من داود عليه السلام وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده، ثم صنع مثل ذلك مرتين، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي، تغتسل ولها شعر طويل؛ فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينه. قال ابن العربي: وأما قول المفسرين إن الطائر درج عنده فهم بأخذه واتبعه فهذا لا يناقض العبادة؛ لأنه مباح فعله، لا سيما وهو حلال وطلب الحلال فريضة، وإنما أتبع الطير لذاته لا لجماله فإنه لا منفعة له فيه، وإنما ذكرهم لحسن الطائر خرق في الجهالة. أما أنه روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه؛ لأنه من فضل الله سبحانه وتعالى كما روي في الصحيح: قوله تعالى}وخر راكعا وأناب} أي خر ساجدا، وقد يعبر عن السجود بالركوع. قال الشاعر: قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع ها هنا السجود؛ فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدخل على الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئه، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر، فسمي السجود ركوعا. وقال المهدوي: وكان ركوعهم سجودا. وقيل: بل كان سجودهم ركوعا. وقال مقاتل: فوقع من ركوعه ساجدا لله عز وجل. أي لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة، ثم وقع من الركوع إلى السجود؛ لاشتمالهما جميعا على الانحناء. }وأناب} أي تاب من خطيئته ورجع إلى الله. وقال الحسن بن الفضل: سألني عبدالله بن طاهر وهو الوالي عن قول الله عز وجل}وخر راكعا} فهل يقال للراكع خر؟. قلت: لا. قال: فما معنى الآية؟ قلت: معناها فخر بعد أن كان راكعا أي سجد. واختلف في سجدة داود هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا؟ قال ابن خُوَيزِمَنداد: قوله}وخر راكعا وأناب} فيه دلالة على، أن السجود للشكر مفردا لا يجوز؛ لأنه ذكر معه الركوع؛ وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكرا فأما سجدة مفردة فلا؛ وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكرا، ولو كان ذلك مفعولا لهم لنقل نقلا متظاهرا لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة. قلت: وفي سنن ابن ماجة عن عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين. وخرج من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره - أو يسر به - خر ساجدا شكرا لله. وهذا قول الشافعي وغيره. قلت: خرج ابن ماجة في سننه عن ابن عباس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم،فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم، كأني أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم أحطط بها عني وزرا، واكتب لي بها أجرا، وأجعلها لي عندك ذخرا. قال ابن عباس فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ }السجدة} فسجد، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة. قوله تعالى}فغفرنا له ذلك} أي فغفرنا له ذنبه. قال ابن الأنباري}فغفرنا له ذلك} تام، ثم تبتدئ }وإن له} وقال القشيري: ويجوز الوقف على }فغفرنا له} ثم تبتدئ }ذلك وإن له} كقوله قال الوليد: وحدثنا عثمان بن ابن العاتكة أنه كان في قول داود. إذ هو خلو من الخطيئة شدة قوله في الخطائين أن كان يقول: اللهم لا تغفر للخطائين. ثم صار إلى أن يقول: اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم؛ سبحان خالق النور. إلهي خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني. إلهي أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها؛ سبحان خالق النور. إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحبها علي، وإذا ذكرت رحمتك أرتد إلى روحي. وفي الخبر: أن داود عليه السلام كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته؛ فكان ينادي: إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك أرتد إلي روحي؛ رب اغفر للخاطئين كي تغفر لداود معهم. وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها. وكان إذا كان يوم نوحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رؤوس الجبال وأفواه الغيران: ألا إن هذا يوم نوح داود، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده؛ فيهبط السياح من الغيران والأودية، وترتج الأصوات حول منبره والوحوش والسباع والطير عكف؛ وبنو إسرائيل حول منبره؛ فإذا أخذ في العويل والنوح، وأثارت الحرقات منابع دموعه، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم. ومات داود عليه السلام فيما قيل يوم السبت فجأة؛ أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل؛ فقال: جئت لأقبض روحك. فقال: دعني حتى أنزل أو أرتقي. فقال: مالي إلى ذلك سبيل؛ نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق، فما أنت بمؤثر بعدها أثرا. قال: فسجد داود على مرقاة من الدرج فقبض نفسه على تلك الحال. وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة. وقيل: تسع وسبعون، وعاش مائة سنة، وأوصى إلى ابنه سليمان بالخلافة. قوله تعالى}وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} قال محمد بن كعب ومحمد بن قيس}وإن له عندنا لزلفى} قربة بعد المغفرة. }وحسن مآب} قالا: والله إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود. وقال مجاهد عن عبدالله بن عمر: الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة. وعن مجاهد: يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده: فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزا إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى. قال: ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له ها هنا؛ ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا، ثم يرى فيقلق فيقال له هاهنا؛ حتى يقرب فيسكن فذلك قوله عز وجل}وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} ذكره الترمذي الحكيم. قال: حدثنا الفضل بن محمد، قال حدثنا عبدالملك بن الأصبغ قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبدالملك بن أبي سليمان عن مجاهد فذكره. قال الترمذي: ولقد كنت أمر زمانا طويلا بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله}ربنا عجل لنا قطنا} والقط الصحيفة في اللغة؛ وذلك
|